العصر الحفصي
ومن النباتات النسيجية، يبدو أنه لم يكن مزروعا بانتظام إلاّ القنـّب والكتـّان في ضواحي بجاية وجيجل. ففي القرن الثاني عشر، كان القنـّب موجودا أيضا في قرطاج والكتان في ضواحي عنابة، وكذلك في نابل، في بداية القرن السادس عشر. أمّا القطن، فقد أشار الإدريسي إلى وجوده في عدة أماكن، ولكن يبدو أن إنتاجه الذي كان ضعيفا للغاية في العصر الحفصي، قد انقرض شيئا فشيئا. وبالعكس من ذلك لا ينبغي أن نهمل استغلال الموارد الطبيعية المتمثلة في الحلفاء والأسل والنخل البرّي، وقد كانت تزوّد بالموادّ الأولية نسيج الحلفاء وصناعة السّلل….
….ولا يبقى بالتأكيد من الجند القارّ إلاّ بعض أفراد من الجنود المستقرّين في معظمهم في العاصمة، بالإضافة إلى بعض الوحدات المقيمة في قسنطينة أو بجاية. وهو ما يعبّر عنه عادة بالجند أو الحشم. والغالب على الظن أنّ الجنود النازلين في أغلب مدن الأقاليم، كان عددهم قليلا في الظروف العادية، وهم يمثـّلون قوّات الأمن الموضوعة على ذمّة الولاة، أكثر مما يمثـّلون حاميات عسكرية بأتمّ معنى الكلمة. أمّا الاستثناءات القليلة التي أشار إليها الإخباريّون، فهي متولّدة عن بعض الظروف الوقتية. من ذلك مثلا أن ابن اللحياني، عندما شعر بأنه مهدّد من طرف جاره أبي بكر، ركـّز سنة 1317 وحدات من القوات المسلّحة في باجة والحمّامات. عندما تمّ احتلال بجاية لحساب أبي العباس، أرسلت إليها القسنطينة سنة 1360 عددا من الجنود. ولا شكّ أن الحاميات التي ركـّزها أبو زكرياء الأوّل على الحدود، كانت قليلة العدد. أما المراكز المكلـّفة بحماية منطقتي التلّ والهضاب من غارات الأعراب الرحّل الموسميّة، فإن ابن خلدون الذي أشار إلى وجودها، لم يوضـّح تركيبها ولا مواقعها. ويبدو أن هذا النظام لم يكن على نطاق واسع في العصر الوسيط، ولئن تمّ تركيز بعض الحاميات في العهد الحفصي، فإن ذلك لم يقع إلا بصورة متقطعة وبنجاعة غير ثابتة….
ولقد أشارت المصادر إلى وجود قضاة محلـّيين في العهد الحفصي، في المدن التالية، بغض النظر عن تونس : بجاية وقسنطينة وعنـّابة وبسكرة ونقاوس وتبسة وباجة وتبرسق والاربس وسوسة والمهدية والقيروان وقفصة وتوزر ونفطة وصفاقس وقابس والحامة وطرابلس. ومن ناحية أخرى كان قاضي الوطن القبلي يقيم بالحمّامات. كما كان لكلّ من جبل وسلات وجزيرة جربة ـ على الأقل في أواخر القرن الرابع عشر بالنسبة إلى الجزيرة ـ قاض مالكي خاص.
وقد كان هؤلاء القضاة يستمرّون أحيانا في الاضطلاع بمهامهم سنوات طويلة. ولكن السلطان يستطيع دوما وأبدا نقلتهم أو عزلهم بدون قيد ولا شرط. وكان العزل، بدون تعيين المعزول في منصب آخر، يعتبر عقوبة شدية، وقد سلّطت مثلا في النصف الثاني من القرن الرابع عشر على قاضي الحمامات المتـّهم بسوء معاملة أحد ضيوفه. ولكن النقلة من مدينة إلى مدينة كانت تعتبر من الأمور الطبيعية التابعة للوظيفة، ولو أنها كانت تقع أيضا لأسباب تأديبية. فقد روى ابن ناجي نفسه أنه تولّى القضاء على التوالي في ست مدن إقليمية، ثم أضاف قائلا: “ولا أدري ما وراء ذلك”
كما كانت تنسج، لصنع ملابس كبار رجال الدولة، قماشا من الحرير والقطن أو من الحرير والصوف “مختم وغير مختم” يعرف باسم “السفساري”، مثل الاسم الذي يطلق الآن على حجاب المرأة. وكانت سوسة منذ عهد بعيد مشهورة بجودة أقمشتها وملابسها. وكانت أقمشة جربة الصوفية، ذات اللون الواحد أو المخططة، مرغوبا فيها في الخارج، كما هو الشأن في العصور الحديثة. وفي القرن الثاني عشر، كانت المهدية مشهرة أيضا برقـّة أقمشتها. وأما أقمشة درجين، بالقرب من نفطة، فتكاد تكون مماثلة لأقمشة سجلماسة. وكانت قفصة تصنع الشيلان والملابس والعمائم. وفي القرن الثالث عشر، حسب رواية ابن سعيد، كانت تصنع بطرّة أقمشة صوفية جيّدة. وفي القرن السادس عشر، أشار ليون الإفريقي أيضا إلى صناعة “نسيج الكتـّان” في قفصة، وكذلك في عنابة والمرسى والحمامات والأربس وطرابلس، كما أشار إلى وجود النسّاجين في باجة وصفاقس، وذكر أن الأغطية الصوفية كانت تنسج في ميلة والمحرس. وكانت الأغطية ذات الخطوط الملوّنة، المعروفة باسم “الحنبل”، تصنع، في نفس الوقت في سطورة وعنابة وتونس….
كما أن خزف نابل المطلي الذي يمثل الآن إحدى البضائع المصدّرة إلى الخرج، لا يرجع عهده هو أيضا إلى العصر الوسيط، بالتأكيد. فمن المحتمل أن يكون قد دخل إفريقية في فترة متأخرة، بواسطة المسلمين المطرودين من إسبانيا. وبالعكس من ذلك فإن صناعة “الزليج” قد توطـّنت في مدينة تونس منذ حوالي القرن الرابع عشر، تحت تأثير الأندلسيّين. وفي آخر القرن الموالي، كان الولي الصالح سيدي قاسم الزليجي، أصيل مدينة فاس، يتعاطى في العاصمة الحفصية صناعة “الزليج”. إلاّ أن المركزين الوحيدين اللذين ذكرهما ليون الإفريقي، بالنسبة إلى صناعة الخزف، هما قفصة وسوسة، فقد كان سكان المدينة الأخيرة يصنعون “القصاع وعددا كبيرا من أنواع الأوعية”، لتلبية حاجات كامل المنطقة الشمالية الشرقية من البلاد التونسية. أما قفصة فقد كانت مشهورة سابقا بزجاجها وأوانيها المذهبّة….
ولقد كان تعيين عدول جميع مدن إفريقية يتمّ في الطروف العادية، من قبل قاضي الجماعة بتونس، الذي كان يتمتـّع أيضا بحق عزلهم. ولكن يبدو أن هذا الحقّ لا يستعمل في أغلب الأحيان إلاّ لتعيين المعني بالأمر في منصب أعلى، أو في صورة ارتكابه لخطإ يستحق العقاب. من ذلك مثلا أن إبراهيم بن عبد الرفيع قد عزل عدلا بالوطن القبلي، لتورّطه في قضيّة مع قايد تلك المنطقة. كما عزل عيسى الغبريني أربعة عدول في سوسة دفعة واحدة لأنهم وجّهو مباشرة إلى السلطان أبي فارس، دون “أن يشاوروه”، شكوى “لا أصل لها” ضدّ قاضي المكان….
أمّا الأنهار فقد كانت تعبر على وجه العموم بالمخاضة. ولم يتم إلاّ بصورة استثنائية إنشاء جسر بالقرب من رادس على الطريق الرئيسية الرابطة بين تونس من جهة وبين الوطن القبلي والجنوب من جهة أخرى، وهي الجسر الجميل الذي أقامه السلطان الحفصي أبو زكرياء فوق وادي مليان، وقد كان مبنيا بالحجارة والإسمنت ومتركبا من سبعة عقود. ولكنّ السلطان لم يشيّده بماله الخاص ولا بمال الخزينة، بل بفضل الكنز الذي تركه متسوّل مغربي، قد توفـّى عنيـّا وبدون وارث.
هذا وإن أهمّ الطرق المسلوكة عادة، سواء كان الأمر متعلقا بالتجارة أو بأسباب أخرى من التنقل، كانت تتمثل في الطريق الرابطة بين أهم المدن الواقعة على الساحل أو القريبة منه. فمن المغرب الأوسط إلى بجاية، كانت الطريق تمرّ بتدلس ثم تجتاز منطقة القبائل أو تحيط بها من الجنوب. ومن بجاية إلى تونس كانت الطريق تمرّ عادة من قسنطينة وتحيد أحيانا في اتجاه عنابة ثم تتـّبع وادي مجردة. ومن تونس إلى ما وراء طرابلس كانت الطريق تشقّ قاعدة الوطن القبلي، ثم لا تبتعد أبدا عن الساحل، ما عدا عطفة الطريق التي يخرص بعض المسافرين على سلوكها، للمرور من القيروان.
فقد ولد سيدي أحمد بن عروس في تاريخ غير محدّد من القرن السابق (الرابع عشر) بقرية المزاتين الواقعة في وادي الرمل، في أقصى جنوب الوطن القبلي. وقد ادّعى هو نفسه أنه من أصل عربي، ولكنّ هذا الادّعاء غير مؤكّد. وأصبح يتيم الأب في وقت مبكّر، فتولّت تربيته أمّه سالمة المنحدرة من قبيلة مصراتة البربرية الطرابلسية. وإثر وفاة زوج أمّه الثاني، التحق أحمد في أوّل الأمر بأخويه الأكبرين اللذين لم يمكثا مع والدتيهما، ثم استهلّ حياة المغازرة، متعاطيا بعض المهن المتواضعة، ومزاولا دراسته في نفس الوقت. فقد تعلـّم القرآن في مدينة تونس، مع القيام ببعض الأعمال المنزلية في عدد من الزوايا، ثم تابع بعض الدروس في مدرسة المعرض واشتغل خادما في مقام سيدي محرز. ونجده بعد ذلك في أماكن مختلفة من المناطق الشمالية والشمالية الشرقية التوسية، متعاطيا بعض الحرف الصغرى، حيث اشتغل على التوالي نشّارا ونجارا و”وقّافا بفرن”، وبهذه الصفة الأخيرة عاش مدّة من الزمن في زاوية ابن سيدي عياش بطبلبة، حيث تلقى لا محالة تعليما صوفيا مستمدا من مدرسة القيروان….
وعلى نطاق أوسع أكثر، بدأ التعمير يتأثر بوجود وتكاثر الأتباع وأحفاد الأولياء، حول الزوايا، كما بدأت تظهر شيئا فشيئا القبائل الصوفية التي سيزداد عددها في العصور الحديثة. ففي الوطن القبلي مثلا، لم يقتصر الأمر على اتخاذ نوبة أو نوبية، حوالي القرن الخامس عشر، اسم سيدي داوود الذي كان يقيم بها في القرن السابع، بل إن الداووديين من أحفاده الذين ادّعو أنهم من الأشراف، يعمّرون الآن امل المنطقة. ويجوارهم يقيم عدد أوفر من المعاويّين الذين يتولّى رئيسهم بموجب القانون خطة نقابة الأشراف في الوطن القبلي. وهم ينتسبون كلّهم إلى جدّ واحد يدعى سيدي معاوية بن عتيق، يبدو أنه عاش في أواخر التابعة إليهم تنحدر من أشخاص يدّعون أنهم من ذريّة سيدي معاوية، اعتبارا من الجيل الخامس أو السادس، أي حوالي منتصف القرن الخامس عشر، حسب الاحتمال. ولعلّه من الممكن أن نعتبر كواحد منهم، المدعوّ محمّد بن قاسم الذي أشارت إليه بعض المصادر، باعتباره ابن حفيد معاوية بن عتيق، وقد كان يقيم في دخلة الوطن القبلي أو دخلة المعاوين سنة 867 هـ/1462 م.