شكـّل الوطن القبلي منذ العصور الغابرة وجهة الغزاة والباحثين على الرّاحة والهدوء.وقد تغنـّى الكتـّاب من رحـّالة وشعراء قدامى ومعاصرين بجمال المشهد وروعة الطـّبيعة واعتدال المناخ وتميّز الشـّواطئ وتفرع روائح بساتينه وغاباته ومروجه.استوطنت بالرّأس الطيب بلد الخيرات شعوب وقبائل أتت من كلّ حدب وصوب مشكـّلة تراكما ديمغرافيا تتقاطع فيه الحضارات وتتلاقح وهبت الطبيعة الوطن القبلي كل الفضائل التي تجعل منه بستان قرطاجة المزهر وضفة لتسامح وانفتاح على المتوسّط وأرض ضيافة تجلب السيّاح والمصطافين من داخل البلاد ومن جميع أصقاع العالم.
هذه العناصر وغيرها من مكوّنات اقتصادية واجتماعية وثقافية وجغرافيّة تمنح الوطن القبلي إمكانات هامة في ميدان التصنيع السّياحي.شواطئ الواحد منها أجمل من الآخر ممتدّة على طول 300 كم ومزهوة بمياهها الصافية ورمالها الناعمة والمتلألئة تحت شمس دافئة ونسيم عليل والطقس معتدل على امتداد الفصول.مشاهد طبيعية خلابة لا تفقد نضارتها واخضرارها وكأنها غير آبهة بوضع الزمن ترصّعها مواقع ذات طابع بيئي خصوصي تميد من الجبلي إلى البحري، كثبان وصخور، مرافئ ومسالك غابية، هضاب وسهول، ومعالم آثرية شاهدة على الحضارات البرية التي تتالت على بلادنا .
إنّها مواقع غنية بالمنشآت وسهلة الزيارة لمدينة “كركوان” التي تعتبر المدينة البونيقية الوحيدة التي أفلتت من سطوة التاريخ ولم تمحها تبدلات الزّمن وتحولاته الضارية، ومدينة الحمامات العتيقة بأسوارها الشامخة في كبرياء ومقاومة عنيدة والتي كانت تدعى في سالف العصور “بوبوت” وصولا إلى نيابوليس أصل مدينة نابل المشهورة بأحواض تمليح السمك والمقابر البونيّة مرورا بسفح جبل سيدي الأطرش وهضاب منزل تميم ومدينة طبرنق الفريدة والبديعة التي تخصّصت في إبداع عملية التصرّف في المياه.
بدأت ملحمة السّياحة في الوطن القبلي في القرن 20 عندما تغنّى بجماله الغرباء من الرحّالة والرسامين والأدباء فوصفوه: كعش هادئ تعانق خضرته أمواج بيضاء على بحر لازوردي. بحر ماؤه كاللجين ورماله من ذهب وكثبانه عذراء كأنّ الطبيعة صفـّته بغربال سحري، ضمن مشاهد طبيعية أشبه بالسنفونية البصريّة أغرت أولى المصطافين من المبدعين والأثرياء الذين شيّدوا بيوتا وسط أجنـّة (جنائن) على ضفاف البحر مشكـّلين النواة الأولى للسياحة كما أطلق عليهم أحد علماء الاجتماع بالجهة إسم : السّواح الـرومانسيين المقيمين.
إنّ الأدباء الذين زاروا المنطقة ساهموا في وضع مدوّنة كانت وراء شهرة الحمّامات بين الحربين نذكر منهم على سبيل الذّكر لا الحصر “جورج برنانوس” ـ غسطاف فلوبير ـ بول فاليرى ـ ميشال تورني ـ فيدو مدينا ـ إلى جانب رسّامين أبدعوا في التقاط المشهد الطبيعي وتثبيته على لوحات مازالت اليوم مثار اهتمام زوّار المتاحف في العالم مثل : جراردي ، بول كلي أوغست مات وميولي.
استقرّ في العشرينات العديد أثرياء استقراطية أوروبا أمثال : الرومي جورج سيباستيان ـ والانقليزي ريتشاد سن ـ وهنسون ـ والجنرال المتقاعد : بريت الذين شيّدوا بيوتا مازالت مرجعا في تطويع المفردات المعماريّة المحليّة ولطريقة الأمثل في استغلال الفضاء واتـّجاه الريح ودوران الشمس.
والطريف أن بعض تلك المنازل تحوّل إلى أوّل نواة للنزل السياحية إبّان الاستقلال من ذلك أنّ نزل ميرمار وهو أوّل نزل سياحي بالبلاد التونسية (شيّد سنة 1958) انطلاقا من منزل رشاتسن الفاخرة كما تحوّل منزل الجنرال بروت بعد توسعته إلى نزل الفراتي.
بدأت الانطلاقة الحقيقية للسياحة التونسية سنة 1960 عندما كان عدد الأسرّة في النزل لا يتعدّى العشرات إلى أن وصل اليوم إلى 77849 ليلة مقضّاة. تتميّز السياحة في الوطن القبلي بتنوّع أقطابها واندماجها في المحيط الاجتماعي والاقتصادي.
تمركز النشاط السياحي في البداية حول قطبين نالا نصيب الأسد على مستوى التجهيزات (نزل ومطار ومدارس واستراحات ومغازات ووكالات سفر وغيرها من المتطلبات الحيوية) أقدمها قطب الحمّامات ونابل، أمّا الثاني “فياسمين الحمّامات” الذي شيّد منذ عقدين كقطب سياحي متكامل يعدّ مفخرة السياحة التونسية والمغاربية.
شهدت مدينة الحمامات، التي كانت حتى عشيـّة عهد الاستعمار قرية صغيرة لا يتعتدّى نشاط أهلها الصيد التقليدي وغراسة القوارص ولا تتجاوز مساحتها المدينة العتيقة الحالية تحيط بها أرباض صغيرة طفرة نوعية وكمية على مستوى السياحة إذ ارتفع عدد أسرّتها منذ سنة 1960 إلى 21960 سرير عام 1980 .عقدان كانا كافيين لتتحوّل أثناءهما كلمة سياحة دالّة على مدينة الحمامات، فتطورت القرية البحرية بنسق متسارع تجاوزت به جارتها الكبرى مدينة نابل التي بقيت مدينة متوسطة يحلو فيها العيش ولم تشهد غزو سلاسل النزل السياحة الجماعية.
الحمّامات وشم جميل على خدّ تونس، تمتد شواطؤها مرصّعة بمراكب الصيد التقليدية على عشرات الكيلمترات، شواطئ حافلة بالمنشآت السياحية المختلفة فتبدو وكأنها قلادة على جيد الوطن القبلي.
بتطوّر السياحة عرفت الحمامات منذ 960 انفجارا عمرانيا حوّلها من قرية هادئة إلى مدينة صاخبة وعرفت الحمامات كيف تحوّل نجودها التي هجرها الفلاحون لملوحة سباخها إلى قطب سياحي عالمي مندمج وهو قطب “ياسمين الحمامات” الذي يمكن للسياحة التونسية أن تفخر به.
وإذ كانت السياحة بالوطن القبلي في بدايتها سياحة شمس وبحر وسباحة وإقامة فإنّه سرعان ما تعدّدت المبادرات السياحيّة منذ 10 سنوات فأنشأت فروع أخرى ذات قيمة مضافة كحقول الصولجان وسياحة المؤتمرات وسياحة التداوي بماء البحر وتتواصل المبادرات الحالية لبعث مشاريع جديدة في ميدان السياحة البيئية والسياحة الطبيّبة وإدماج السياحة في الرياضة.
ويلوح في الأفق مشروع تونسي صيني كبير لبعث أكبر مشروع في المتوسط يختصّ في السياحة البيئيّة بجزر زمبرة وزمبرطة.
وليس بعيدا عن القطبين الأساسين نابل والحمامات تتوزّع المشاريع السياحية عبر مدن أخرى مثل : قربة وقليبية بتـشييد أنماط جديدة من النزل تتميّز بالمستوى الـرّاقي في الخدمات والاندماج في المشهد الطبيعي والوسط الاجتماعي. كما تطور مفهوم الصناعة الفندقية إذ شيدت مجموعة من النزل الصغيرة الشبيهة بالقصور التي تخصّصت في سياحة الكيف لا الكم. مساهمة في تصاعد عدد الإقامات العائلية المتأتية من السياحة الداخلية، العائلية حتى أصبح الوطن القبلي الوجهة المفضّلة صيفا للمصطافين القادمين من البلدان الشقيقة المجاورة وفي مقدمتهم الوافدون من ……. الوطن القبلي إلى قطب سياحي اصطيافي تتمازج فيه عشرات الجنسيّات في تفاعل قلّ نظيره في أي بلد عربي وإفريقي.وهاهم مواطنو أوروبا الوسطى والبلدان الاشتراكية سابقا يكتشفون الوطن القبلي كما بدأ توافد السياح الآسويين من الصّين واليابان، هذا التلاقح والتعايش يجعلان السياحة التونسية سياحة تعايش تزيح تلك الصورة القديمة التي أشاعتها السياحة الجماعية أو ما يسميها البعض سياحة وكالات الأسفار كما تحوّل الوطن القبلي إلى قبلة اختارها بعض المتقاعدين الأوروبيين للإقامة المتواصلة على مدار السنة. تماما كما هو الشأن للعديد في الشخصيات المعروفة والمرموقة في ميدان الموضة والفن والمال.