ليس الخصب والجمال والشواطئ الشاسعة والطقس المعتدل هي مميزات الوطن القبلي وحدها، إنما يبدو الرّأس الطيب وكأنه متحف بيئي متوسّطي.
على مرتفعاته وسهوله و شواطئه تتالى المكونات البيئية كالبساتين والحقول والغابات والوديان و السباخ ، كلها تتناغم في تركيبة نسجتها الطبيعة وربّما استغلّها الاقتصاد على حساب البيئة، لكنّ المشهد الطبيعي بقي يشكل لوحة بيئية متناظرة فالأرض والبحر والنبات والريح والأودية التقت لرسم جداريه كالفسيفساء تعكس المشهد البيئي بمنطقتنا، بيئة استغلّها الإنسان لكنّه أثر فيها واستغلّ خيراتها لكن دقة عمل البرامج البيئية الموجهة للمحافظة على التوازن البيئي وقفت أمام زحف النشاط الاقتصادي على المشهد الطبيعي. تناغم الشّاء والنّماء خلق تفاعل بيئي صمد أمام جشع الإنسان في استغلال الطبيعة.
حتى وإن كانت حركة التمدّن والتعمير وتطوّر المعمار استجابة لمتطلبات اقتصادية فقد بقي المشهد الطبيعي والبيئي في الوطن القبلي متماسكا ومتناغما منذ العصور القديمة كما تشهد به وعليه البحوث الأثرية والدّراسات الجغرافية وقد تضافرت جهود البرامج الوطنية و الأوروبية والمتوسطية للمحافظة على البيئة والطبيعة مع اليقظة البيئية من خلال المؤسسات الوطنية وحماس الجمعيات البيئية التي تصدت عمليا وعلميا وعلى مستوى البحوث والبرامج حتى بقى الوطن القبلي منطقة تحافظ على توازنها البيئي وتناغم مشهدها الجغرافي.
فالمدّ البيئي والتنوّع الجغرافي وتعدّد أنماط التضاريس ثم كيفية استغلال التربة كلّها حوّلت الوطن القبلي إلى نمط المتحف البيئي للمتوسّط.
يتكوّن المشهد وكأنّه لوحة تشكيلية من عدّة مفردات : سواحل صخرية وسهول تمّت غراستها بعشق ومساحات شجّرت علميا وكثبان ثم أحواض تجميع المياه مع الجبال والشواطئ الرملية حتى الهضاب الصخريّة البركانية التي حوت قبور الشعوب الغابرة، إلى جانب السّباخ والسّدود ومحط إعشاش الطيور، كلّ هذا يجعل من الرّأس الطيب أنموذج التناغم البيئي والجغرافي والطبيعي لحوض البحر الأبيض المتوسّط.
يتخلّل المشهد غابات من الأشجار الفوّاحة التي تخلق ملاذا للحيوانات المهدّدة بالانقراض والتي تجد عناية كبرى في تربيتها وحمايتها من طرف الجهات المختصة الوطنية والعالمية. هضاب ومنخفضات ، أودية ، وسهول، جبال وحقول، كلّها تتناغم لرسم مشهد خلاّب يتخلّله بياض القرى والمدن عاكسة نور معمارها عبر زرابي الخضرة.
النماء متعدّد من عشب وخضر وأشجار مثمرة تراوح زرقة البحر بجماله وخيراته. وتتخلل ريف الوطن القبلي تجاعيد الأنهار والوديان تعترضها من حين إلى آخر سدود تؤمّن منذ العهود القديمة حاجة الإنسان للماء في حياته اليومية من فلاحة وتربية ماشية كما يبدو ذلك في معلم عين طبرنق الأثري.
ويزدان هذا المشهد الطبيعي الجميل بمدن أثرية ومعالم متعدّدة تشهد على تمسّك الإنسان بالمنطقة عبر العصور وتتتالى مختلف الحضارات وعلى مرمى حجر تتربّع جزر الجمور الكبرى والصّغرى وكأنّها لبؤة تحرس هذا الرأس الطيب.
تتالى على ضفاف الوطن القبلي سلسلة من السباخ العجيبة والمدهشة التي كانت تعتبر حتى وقت قريب تهديدا للبحر وللفلاحة بيد أن يقظة الوعي البيئي جعل منها معلما بيئيا تهتمّ به المنظمات الوطنية والدولية حتى أصبح من خلال ثماني عشر سبخة معلما بيئيا عالميا إذ هو من أهمّ محطات مختلف الطيور المهاجرة على ضفاف المتوسط ونقطة الوصل بين إفريقيا وأوروبا لمختلف أرهاط تلك الطيور.