لئن عرف الوطن القبلي بخصبه وتطوّر صناعة السيّاحة على ضفافه وشواطئه فقد اشتهر أيضا بتطوّر الصناعات التقليدية التي تمارس في جلّ مدنه، و نحبّذ مفهوم الحرفة على الصناعة التقليدية. الحرف هي التي تنتج إبداعات لا تدخل في صناعتها المكْننة أو المعامل بل هي تنتج قطعة قطعة بيد الحرفيين المهرة وبكدّ وأنامل النساء التي كأنها قدت من ذهب وأيادي الرجال وكأنها سكبت من فضّة وتتقاطع فيها المهارة بالإبداع ودقّة التنفيذ وتوهّج الخيال وتفجّر المتخيّل.
وهو عمل دؤوب بدأ بعيد الحرب العالمية الثانية إذ أسّس الباحث والمؤرخ “بيارليس” المركز الجهوي للصناعات التقليدية ودرس ذلك القطاع وترك لنا مدوّنة هامّة حول الحرف بالمنطقة.
يمارس حرفيو الوطن القبلي جلّ الصناعات التقليدية ويتميّزون بالبعض منها كنسج الحصائر والنقش على الحجارة؛ ويتم هنا استغلال كل منتجات الطبيعة حجرية كانت أو نباتية أو حيوانية وتحول إلى أمتعة وأوان وتحف منها الضروري للحياة اليومية ومنها الابتكارات الفنية.
يساهم الحرفي في الوطن القبلي، من خلال إنتاجه وعمله، على مستويين: الاقتصاد والتجارة من جهة والمحافظة على البيئة من جهة أخرى باستغلال كل العناصر التي لو تركت مكدسة لساهمت في تلوث المحيط.
ومن المواد الحجريّة يستغلّ الطّين والحجر في إنتاج الخزف والفخّار والنقش وتستعمل المواد النباتية من صمار وحلفاء وخشب وحتى الكتان في النسيج والنجارة والتطريز والضفائر والقفاف.
يستغل الإنتاج الحيواني من الصّوف والجلد للنسيج والتطريز والإكساء والأحذية والحقائب وغيرها.
أمّا على مستوى المعادن مثل الحديد والنحاس فقد أصبح الوطن القبلي عاصمة الحدادة الفنية.
ومن هذه المواد ما ينسج وما يطرّز وآخر يُنحت وثالث يُطرق ويُنقش وآخر يوشّح .
يا لها من سنفونية من الحركات وكأنها مهرجان إبداعي يتبارى المشاركون فيه على تفجير قرائحهم، وشحذ خيالهَم!
ليس من المبالغة التأكيد على أنّ الوطن القبلي يعتبر متحفا حيا للحرف والصناعات التقليدية ونافورة إبداع في شتى هذه الفنون التي تختص بها هذه المدينة أو تلك فالخزف والفخار مفخرة نابل وتتفرّد دار شعبان الفهري بالنقش على الحجارة أما تحويل الحلفاء وصناعة القفاف فتختصّ به الصمعة و منزل حر والقصب البري مدينة الهوارية.
تعتبر مدينة بني خيار عاصمة النسيج وهي التي بعثت فيها منذ الاستقلال تعاضديّة “الفوز” الشهيرة، ويتمركز التطريز والخياطة في الحمامات و نابل وقربة وتنتشر ورشات البناء المعدني والخشب والحدادة وطرق النحاس على كامل مدن الساحل الشرقي.
يتميز الوطن القبلي بالكثافة العالية من الحرفيّين في شتى الميادين من نقاشين ومطرّزات ونساجين وصانعي الحصر والقفاف والسّجّاد النباتي والخزّافين وصنـّاع الجلود كالدّلو والأحذية والنجارين و ينتمي جلـّهم إلى مجامع مهنية تنظم عملهم وتساعدهم على تسويق إنتاجهم بدفع من المندوبية الجهوية للصناعات التقليدية بنابل التي تضع على ذمتهم المواد الأولية والمرشدين كما تضع على ذمّة العديد منهم ورشات ضمن المركز الجهوي للصناعات التقليدية الذي يعتبر قبلة للسياح والزبائن .
وإذا كانت بعض الحرف مهدّدة بالاندثار فإن عددا هاما منها مازال صامدا بل ويعيش قفزة نوعية كالجليز والخزف والتطريز والنسيج وفنون اللهب.
وقد وضعت مخطـّطات مرحلية لترشيد الصناعات التي يعزف عنها الشباب وذلك بالمساعدة والتكوين وتنظيم المعارض كمهرجان الحصير ومعرض الصناعات التقليدية اللذين ينظـّمان كل سنة والتشجيع على المساهمة في المسابقات المحلية والمشاركة في المعارض الدولية والتنسيق بين السياحة والصناعات التقليدية وتعصير القطاع.
تعتبر مدينة نابل عاصمة الفخـّار إلى جانب جزيرة جربة ومدينة المكنين. وتعود علاقة الوطن القبلي مع صناعة الفخار إلى العصور القديمة، حيث أكّد المؤرخون أن الفخـّار كان يصنع في نابل أو نيابوليس : (المدينة الجديدة) على شكل أوان ذات أبعاد مجردة ودقيقة منها جرار لخزن الزيت وقلال لاستجلاب الماء من الآبار والعيون ذات العنق الضيق والأنيق وكانت ورشات صناعة الفخـّار متعددة في منطقة نابل وتصدّر بواسطة المراكب إلى كل المدن المجاورة لضفاف المتوسط وقد عثر المؤرخون أثناء حفرياتهم بنابل و دار شعبان و الحمامات على بقايا قلال وجرار وأوان من فخار .
يعود مجد صناعة الفخـّار بالوطن القبلي إلى نهاية القرن السادس عشر حين أصبحت صناعته مزدهرة بقدوم حرفيين من جزيرة جربة باحثين عن أسواق جديدة والذين وجدوا في محاجر الطين بالمنطقة مادة أوّلية جيدة و متوفرة بغزارة. وقد استوطنت عدّة أسر أصيلة جزيرة جربة مدينة نابل حتى أطلق على حي الفخـار المسمى أصلا بالقـلتة “حي الجرابة” وعلى ورشة صناعة الفخار “دار جرابة” أو القلالين بعد قدوم حرفيي الفخار من حي القلالين بتونس ويوجد إلى حدّ اليوم حي بمدينة نابل يدعى حي الجرابة.
كانت جلّ الورشات والمشاغل تتجمع في حي واحد يسمّى القلتة والذي لم يبق منه الآن سوى ورشتين صغيرتين كنماذج إلى جانب منطقة المحفر مركز مدينة نابل وتدل الكلمة على أن المكان كان “محفرا” أو “محجرا” يقتطع منه الطين ثم نقل بعد الاستقلال حي الخزّافين إلى خارج المدينة على طريق تونس حيث أصبح منطقة صناعية مختصة في حرف اللهب والطين بورشاتها الصغيرة ومعاملها الصناعية الكبرى.
وقد تخصص حرفيو الفخار القادمين من جزيرة جربة في نوع من الفخار الأصيل والبسيط المسمى بالشـّواط والذي كان من اختصاص قلالة بجربة.
اشتهر خزف نابل بخصوصيته في اللون والشكل، إذ انفردت المدينة بعد القلالين بنوع من الخزف المطلي بأوكسيد الرصاص وألوانه المتميزة الصفراء والخضراء إلى جانب زركشة بيضاء وزرقاء ويرجع استعمال أكسيد الرصاص إلى بداية القرن السادس عشر حين استجلبه الأندلسيون.
أمّا الخزف التقليدي المسمى بالخزف العربي ذو الألوان القصطلية المرسومة على مساحات صفراء داكنة فيعود إلى قدوم الخزافين من جزيرة جربة في بداية القرن السابع عشر، ثم انتشر الخزف من طراز “القلالين” بعد قدوم عدد من الخـزافين إلى نابل من حي الخزافين بالعاصمة والمعروف بالقلالين.
في بداية القرن العشرين انتشر صنف جديد من الخزف يتميز بتعدد الألوان والرسوم والتفنن في الزركشة التي تجلب السياح وهي طرق مستحدثة لمجاراة العصر حتى كاد خزف نابل الأصيل يندثر.
لكن نشاط المندوبية الجهوية للصناعات التقليدية بنابل والحوافز التي قدمتها وتقدمها للحرفيين وعمليات المساعدة والترشيد أعادت البريق إلى صناعة الفخـّار التقليدي المعروف بفخار نابل وحتى فخار القلالين.
توجد بنابل عدّة أسر اشتهرت بحذقها لصناعة الفخار مثل عائلة بن سدرين أصيلي جربة وعائلة المجدوب وخاصة أسرة الخرّاز المنحدرة من أصول أندلسية كما يدل على ذلك اسمها إذ أن الخرّاز هو أصلا تعريب لكلمة الكرازاز الاسبانية والتي تعني القلة الصغيرة المستعملة لتبريد الماء كالدورق النابلي.
تـقـنية صناعة الفخار في نابل تقـنية عريقة تتم بطريقة تقـليدية تستعـمل الطين الطبيعي الذي تتم تسويته في أفران تتراوح درجة حرارتها بين 800 و950 درجة وأشكالها متعارف عليها ومتوارثة ومتشابهة وتعود إلى أشكال الفخار والخزف بجزيرة جربة ولكن
المتمعّن في تلك الأشكال يكتشف أن بعض قطع الفخار المصنوعة في نابل ترجع أصولها إلى الفخار البوني والروماني.
أمّا الفخار والخزف الفنيين فيستمدان أشكالهما وزخارفهما من عدّة مصادر ترجع تقنيات طليها ودهنها إلى التقنيات المتداولة في جنوب فرنسا وإيطاليا حتى القرن الخامس عشر.
ولصناعة قطعة فخار يمرّ الخزاف في نابل بعدة مراحل، تبدأ باستخراج الطين من المحاجر الكبيرة المجاورة للمدينة والمسماة بغار الطفل ويبلل الطين ويخزن رطبا حتى يستوي ويحتفظ بطراوته ثم يصفى من أحجاره ويجفف ويهشم ويغربل ويخلط ثم يبلل ويترك مدّة طويلة حتى تتفاعل مكوناته مع بعضها ليتحول إلى نوع من العجين الطيني الليّن ثم يعاد خلطه وعجنه ودلكه ليطاوع الخزاف الذي يستعمل آليات بسيطة لصنع قطع الفخار ولا يحتاج إلى مهارة في حركة الرجلين واليدين مكتفيا بحركات وحرفية لم تتغير منذ 3000 سنة قبل الميلاد كما تدل على ذلك الحفريات في مصر القديمة واليونان.
وتخرج من كتل الطين أشكال رائعة وتحف جميلة وأوان صالحة للحياة اليومية ذات أبعاد وأحجام ومرافق على درجة كبيرة من الدقة والتناسق وتطهى تلك الأواني في أفران إما بالطريقة الطبيعية أو تطلى وتزركش بألوان زاهية وتحمل مفردات تشكيلية متناسقة .
وإلى جانب الفخّار يصنع الجليز الذي هو في الأصل فرع من صناعة الخزف وذلك لتبليط الأرض والجدران وتزيين المباني العامة والبيوت الخاصة.الفخار هو مفخرة نابل والخزف يشكل سحر الإبداع الحرفي بالوطن القبلي.
يمارس العديد من الحرفيين في الوطن القبلي فنّ نسج الحصر وذلك في مختلف أنحاء البلاد. لكنّ عاصمة هذه الحرفة الفنيّة هي مدينة نابل دون منازع كما أن بعض مدن الوطن القبلي الأخرى تستعمل الحصر لفرش أرضية المساجد والزوايا ودكـّات مداخل البيوت وفي المقاهي التقليدية، وتستعمل كذلك كواقِِ من الرّطوبة والبرد وكمهاد فوق الفرش كما تستعين بها ربـّات البيوت لتجفيف القمح والكسكسي وكل ما يدخل في المؤونة ويعتبرها أحبـّاء البيئة أفضل طريقة بيئية لتجفيف المحصولات وخزنها لأنـّها لا تتطلـّب إلاّ حصائر وحرارة شمس.
تتجمّع ورشات ناسجي الحصر في منطقة الرّبط بمدينة نابل حيث يوجد شارع نسّاجي الحصر وفي كثير من الأحيان تمارس هذه الحرفة في ورشة متاخمة لبيت السكن شريطة أن يكون المحل عالي الرطوبة.
وتتمثـّل الورشة في دكـّان يعلوه سقف مقوّس وبه “دكـّانة” لمضاعفة الفضاء وخزن المواد الأوليّة.
ويقع جمع الصمـّار، المادة الأولية لنسيج هذا السجـّاد النـّباتي، بطريقة منتظمة وإعداده يتطلب خبرة وبراعة فائقتين وصبرا ودقـّة.
بعد حصاد الصمّار يجفّف في الظلّ حتى لا يتفتّت ويخزن بعيدا عن الأمطار كي لا يتعفّن، ثم يقع فرزه حسب المعيار واللون حتى يتسنـّى للحرفي وحدة خامة اللحمة التي ينضد فيها الصمار على السدى، ويتمّ صبغ الصمار بألوان زاهية لزركشة الحصر بعدّة وحدات تشكيلية وتجريدية هندسية أو بالخط والكتابة أو تجسيدا لبعض الحيوانات كالجمل والطيور، ويستعمل الحرفيون أصباغا طبيعية
نباتية المصدر كالخزامة وقشور الرمان، ويحتفظ كل حرفي بأسرار تركيبة الأصّباغ المستعملة.
وقد عرفت سنة 1942 طفرة في إنتاج الحصائر إذ أصبحت تستعمل كأفرشة للجيوش الألمانية، ويومها استجلبت الصباغ الصناعية من سويسرا وهولاندا لتسريع وتيرة التنفيذ.
لا يتطلب نسيج الحصر آلات معقدة إلا المنسج الذي يدعى هنا “النـّول” والذي يصنعه النجار المحاذي استجابة للمثل السائر : “منسج الفقير يصلح لنسج زرابي الفقراء”
ويتعرّف المارّة على ورشة ناسج الحصر من تراكم حزم الصمّار المزركش من أصفر وأخضر وخزامة وأحمر وتمدّد السدى على النـّول على طول الورشة قريبا من الباب للإضاءة. وتقدّ السدى من حبال الحلفاء الجيّدة واللحمة من الصمار الذي يقع ترصيفه بطريقة فنية ومهارة عالية وصبر وسكون وتركيز يشابه تركيز الصوفيين، بعيدا عن كل ضوضاء، و قد تدخل في صنع الحصائر خيوط الخيشة الصناعية والتي تساعد رقـّتها على خلق ابتكارات أخرى كالمحافظ والقفاف والأرائك والمصابيح ولوازم الطاولة كقطع الخوان.
عملية النسيج جماعية : إثنان أو ثلاثة يتبادلون خيوط السّدى وترصيف الصمار لتنضيد اللحمة في مشهد بديع وقد انصرف الحرفيون إلى شغلهم في صمت وأياديهم ترسم حركات رشيقة تطرّز وتنسج.
تتمّ عمليّة الرقش والتزويق باستعمال مفردات تشكيلية وفطرية مستوحاة من زينة الزرابي والمرقوم وتمثـّل أشكالا هندسية مربـّعة ومثمـّنة ومزيّنة بحيوانات كالسمك والطيور والجمال.
وتباع الحصر في الأسواق الأسبوعية وخاصة بأسواق نابل وقابس وجربة، وتوازي تجارة الحصر بيع الفخار لأنها من ذات المصدر كما هو الأمر في الأسواق الشعبية المجاورة لمقام الولي سيدي محرز بتونس.
وتشهد الأسواق الآن هجمة شرسة لأنواع من الحصر المصنـّعة من مواد اصطناعية وألوان غريبة ينجز أكثرها في آسيا وحتى بالأردن.
يتعاطى الحرفيـّون نسيج الحلفاء وهي نبات كالصمار أقل طولا تستجلب من مناطق السّباسب كجهة القصرين وسيدي بوزيد تصنع منها بعد أن تظفـر وتخاط قفاف متفاوتة الحجم وأوان لجمع المحصولات وتغذية الحيوانات وتصفية التوابل وحتى بيع المشموم والزنابيل الحاملة للمحاصيل على ظهور الحيوانات.
بتعدّد النزل والشواطئ الاصطيافية تطوّر صنع الشمسيّات والمضلات التي تضفي عليها منظرا جميلا تتآلف فيه الحلفاء وهي مادّة طبيعية وبيئية مع لون الرّمال.
تحتفظ دار شعبان الفهري بآخر ورشات ضفائر الحلفاء وهي الآن مهدّدة بالانقراض,ومنذ سنوات برز نوع آخر من منتوجات الحرف ويتمثـّل في استعمال القصب البري للشمسيّات وتظليل المنازل وأشياء أخرى جميلة وطبيعية حتى حوّل بعض فلاحي منطقة وادي المقايز نمط فلاحتهم من الخضر إلى زراعة القصب على ضفاف الأودية والبرك لما تدرّه عليهم من أرباح.
ينبت في الوطن القبلي نوع من النخيل القزم الذي يتناثر بين صخور الجبال ويستعمله الحرفيون لصنع ضفائر تدخل في حياكة القفاف والقبـّعات والمظلات الشمسية وقطع أخرى كسجّاد الصلاة وهي حرفة تطوّرت في مدن الصمعة، قربة ومنزل حر وقد امتد إنتاج هذه المناطق إلى كافة المناطق المجاورة.
بدأت الأزياء التقليدية الأصيلة تندثر شيئا فشيئا من كلّ أنحاء البلاد صناعة ولباسا وتجارة، وإذا كانت بعض النـّساء الحاذقات يخبّئن أزياء زواج أمّهاتهن تبرّكا حتى يتزوجن بدورهن ولزواج بناتهنّ فإنـّه لم يبق الكثير من النساء الـّلاتي يصنعن ويفصلن ويطرزن لباسهن كما كان الأمر حتى أواسط القرن العشرين ماعدا في ثلاث مناطق هي : المهدية والرفراف والوطن القبلي، حافظت كلها على فنّ فصالة وتطريز اللباس التقليدي وخاصة منه النسائي.
وتتنافس نساء الوطن القبلي ربات بيوت كنّ أو أمهات أبكارا أو عازبات في هذه المهارات بحذق وصنعة عالية.
نساء الوطن القبلي عاملات بكد و صبر واجتهاد. ففي الريف يشتغلن في الفلاحة وإن كنّ في الحواضر فهنّ الـّلاتي يقمن بكل متطلبات البيت والأسرة، والمرأة الرّيفية كما الحضريّة في الوطن القبلي لا تتوانى عن إعداد أزيائها وخاصة منها المعدّة للزواج والأفراح والمناسبات كالأعراس والمواسم السنوية.
عمل دقيق كما تقول الأغنية، ريشةُ بريشة، غرزةُ بغرزة، خيطُا بخيط ، ونسيج محكم يفيض جمالا وفتنة.
جرت العادة أن تعدّ المرأة البكر المخطوبة أزياء الزواج بيديها مستعينة بأمها وأخواتها وجاراتها و تستغرق تلك العملية سنة أو أكثر.
كان تنفيذ أزياء النساء لغاية السنوات الأخيرة موكولا إلى النساء أنفسهن ما عدا النسيج الذي هو من اختصاص الرّجال وتنفّذ النساء بدقـّة وتؤده كل مراحل حياكة اللباس من الزّزة أي الصّوف حتى الغزل والفصالة والتطريز ونقش الأزرار والتذهيب.
وتستعمل النساء الدانتيلا المشبكة التي ورثتها المنطقة عن الأندلسيين الذين حذقوا صناعتها وإدماجها في توشيح الأزياء. ومازالت مدن الوطن القبلي محافظة على هذا الطراز.
يتكوّن لباس العروس أو الكسوة من عدّة قطع جميلة وفاخرة أعدت بحبّ وتأنّ ومهارة خياطتا وتطريزا منها القميص، والجبّة والجبّة العكري والسّراويل من مختلف المقاسات وكل لباس يجهز لأحدى مراحل مراسم الزواج ومنها بعض القطع كالفرملة أو غيرها من الفساتين تعدّ للمتزوّجات وتعرف لغة الأزياء من فصالتها وتطريزها وألوانها.
تدخل في إعداد هذه الأزياء مواد أولية من نسيج صوفي وحريري وقطني وحتـّى الكتان الذي كانت تزرع نباتاته في الوطن القبلي وكذلك النسيج المخملي، و تطرز على تلك الخامات الأنيقة أشكال بديعة بخيوط من الذهب والفضة المطروقة، والعدس والدانتيله والغرز والشرائط الملوّنة. ولا يوجد بيت بنابل و الحمامات ، إلا فيما قل وندر، بدون آلة التطريز التي تسمّى: القرقاف وهي تتكوّن من جهاز حامل من الخشب المطلي بالدّهن الأبيض والذي يبقى شهورا مسندا لجدران السّقيفة حيث يتمّ التطريز كلّ ما سمحت الفرصة. ويبقى القرقاف محمّلا قطعا أثناء التطريز حتى يستبدل الفستان أو القميص بآخر.
يمرّ تنفيذ أجزاء الكسوة بعدّة مراحل إذ تتكون من عدّة قطع تختلف الواحدة عن الأخرى بشكلها والمواد الأولية التي تدخل في إنجازها. تبدأ الخياطة بالفصالة التي تقوم بها إمرأة مختصة وإعداد أجزاء القطعة ثم يأتي دور الرسامة التي تعدّ تصاميم
التطريز، تأتي تلك التصاميم عادة على شكل خطوط مستقيمة أو خطوط منكسرة أو دائرية أو متجعدة تصاحبها أوراق وأزهار ونجوم ونقاط وتضاف إليها أحيانا رسوم ذات قدرة سحرية لمحاربة الحسد ودفع الأذى واتقاء “العين” إلى جانب مكملات أخرى من أقفال وأقراص تصنع من خيوط الفضّة.
تتكون مدونة الأزياء التقليدية من عدّة قطع ترتقي إلى مصاف الأعمال الفنية اختصت بها مدينتا الحمامات و نابل ويوجد في مدينة الحمامات متحف يقدّم للزائر جل أنواع الأزياء التقليدية وكيفية إنجازها ومناسبة ارتدائها.
تتقن نساء الوطن القبلي التطريز على شكل ما يسمّى “غرزة نابل” لإعداد المكملات مثل الخوان والمناديل وأغشية الأسّرة والمخدات وحتى ملابس النساء الداخلية.
ولإعادة إحياء هذه الحرف وفنونها يتم التركيز حاليا على إعداد البرامج وتوفير التمويلات، والتشجيع وطنيا وجهويا على إعادة بعث مراكز للتكوين بنابل على غرار “دار معلمة” و ربطها بمدارس الحرف في شراكة مقيدة بين المتدخلين كمدرسة الصناعات التقليدية والإتحاد الوطني للمرأة ومراكز تكوين الفتاة الريفية وكذلك تشجيع الخواص للمساهمة في عملية التكوين والتعريف بهذه الحرف. مواصلة بذلك ما قام به الباحث “بيارليس” في الخمسينات حين كان مسؤولا على الصناعات التقليدية بالوطن القبلي والذي شغف بالصناعات التقليدية وساهم في تطويرها كما ترك مجموعة من النصوص والدراسات والوثائق تصف بدقة متناهية عمل المطرزات بهذه المدينة.
تقول الكاتبة الفرنسيّة “كولات” بأنّ تونس بلد جميل، سياحة الزّهور. قد تكون كتبت تلك الجملة بعد أن زارت الوطن القبلي وأقامت بالحمامات.
تحاط الزّهور في الوطن القبلي بعناية فائقة، وأكثرها مثارا للاهتمام زهور شجرة النارنج أي البرتقال المرّ التي يستخرج منها ماء الزّهر: الذي يلقب بالـذّهب الشـفـّاف الأبيض.
تسمّى زهرة البرتقال “زْهرْ” أي نفس الكلمة التي تدلّ بالعاميّة على “الحظّ”. إنها فعلا حظّ حقيقي وثروة، فهذا السـّائل يشكـّل نشاطا اقتصاديّا وتكملة للمطبخ وأحد مكوّنات بعض المواد الصّيدليـّة، وله لدى النساء حظوة خاصة، إذ يقبلن عليه بشغف كبير وخاصة في فصل الربيع كنشاط متميز ومخصوص.
إذا كانت لكلّ جهة في البلاد طريقتها الخاصّة في التـّعامل مع الزّهور كتربية شجيرة النعناع في المدينة العتيقة بالعاصمة، والورود في أريانة، فإنّ غراسة شجر النارنج في الوطن القبلي تكاد تكون عملا مقدّسا ولا تخلو منها حدائق البيوت وواجهات المنازل.
ويمكـّن للمتجوّل عبر الوطن القبلي وخاصّة مدن نابل، الحمامات، دار شعبان الفهري، بني خيار، منزل بوزلفة و بني خلاّد أن يستمتع برؤية النـّساء وهنّّ يتسلـّقن السّلالم ويلاحقن آخر زهرة بقيت عالقة بين أوراق شجر البرتقال.
بدخول الرّبيع يوم 20 مارس، ينطلق موسم التـّقطير وترتفع طيلة الأسابيع الأربعة الموالية حمّى تقطير الزّهور.
قد يكون الأندلسيـّون هم الذين حملوا معهم تقنية تقطير زهور البرتقال وهي عملية تتمّ إمّا في البيوت أو آليّا بالمعامل الخاصّة.
وإذا كان استخراج زيوت الزّهر وتقطير “روحه” يتم في بداية الرّبيع فإنّ ماء الزّهر يرافق سكّان الوطن القبلي على مدار السّنة.
وعمليـّة التـّقطير وتحديد مقاديره ومدّة طبخه وكيفية تبريد الأواني نشاط يتوارثه النسوة عن أمهاتهن أو جدّاتهن ويتم ذلك بوله كبير تتداوله الأسرة.
وتحتفظ كل أسرة بأواني التـّقطير وهو الأنبيق الذي انسحب اسمه العربي على كلّ آلات التـّقطير في اللـّغات الأوروبية.
يعاد تركيب تلك الآلات وغسلها وتلميعها في بداية شهر مارس من كلّ سنة، ويختلف إنبيق الوطن القبلي عن بقية المناطق الأخرى فهو مكوّن من قدر كبير يسمّى” قازان” من النحاس بالنسبة للأسر الميسورة وطيني لباقي العائلات، وقد يستعمل البعض أنصاف البراميل، أمّا الغطاء وهو “المكبّ” فمصنوع من الفخـّار البسيط وينطلق منه خرطوم طويل ينتهي بأنبوب ضيّق في حجم عنق الزّجاجة يخترق قدرا يسمّى “المحبس” يملأ بالماء البارد ويعاد ملؤه كلّما ارتفعت حرارة الماء .
الوحدة الأساسية هي “الوزنة” التي تعادل أربع كيلوغرامات، ويستخرج منها بعد التـّقطير مقدار زجاجتين أوّليتين من ماء الزّهر العالي والمركز وزجاجتين من السّائل العادي.
أمّا أهم سائل يجمّع بدقّة وبإبر خاصة فهو زيت الزّهر وهو ذلك الذي يطفح فوق ماء الزهر على مستوى عنق الزّجاجة، ويجمع قطرة قطرة ويسمّى روح الزّهر الذي يقتنيه منتجو العطور الذين يأتون كلّ سنة إلى الوطن القبلي أثناء فترة تقطير الزّهور وربّما يقيمون طيلة الموسم.
يحفظ ماء الزّهر في قوارير خاصة تسمّى “فاشكا” وهو تعريب تقديري لاسم القارورة الاسباني، وهي قوارير تنفرد بانتفاخ أسفلها وتثبّت على سلـّة من البلاستيك أو من السمّار الذي تصنع منه الحصائر وتتفنـنّ النساء في تزويقها و تزيينها بعناية فائقة ودقة متناهية إذ تصنع لها أغلفة مطرّزة بخيوط الفضّة والعدس اللامع تضاف إلى الشبكة الحريريّة أو الورق الفضّي، ولا يخلو أثاث الزواج من تلك القوارير الجميلة.
و منافع ماء الزّهر عديدة ومتنوعة كدواء للحمّى والسـّعال وضربة الشـّمس ويدخل في تركيبة عدّة أدوية محليـّة أوفي الصناعات الكيميائيّة.
أمّا بالنسبة للمطبخ فلا يغيب ماء الزّهر على أفخر الوجبات، فالكسكسي بالسّمك لا يستطاب دون ماء زهر، علاوة على إعداد الحلويّات، بل لا طعم للقهوة عندهم دون “قطيرات” من ماء الزّهر.
وقد شهد التـّقطير الصّناعي تطورا ملحوظا مستهلكا ثلثي إنتاج أشجار البرتقال من الأزهار المخصصة لاستخراج “روح الزّهر” الذي يصدّر ويباع بسعر الذّهب أو أثمن.
وتصدّر تونس بين 700 و 750 كغ من روح الزّهر “النرولي” بثمن يفوق 20 ألف دولار للكيلوغرام الواحد، يتخطفه صانعو العطور الفاخرة الذين يشترونه قبل أن تزهر الأشجار مثل “غرلان” الشـّهير المقيم في الحمامات والذي لا يتخلف عن أي موسم.
تأتي تونس في مرتبة 35 من البلدان المصدرة لزيت زهور البرتقال، ويتم في الوطن القبلي تقطير عدّة زهور أخرى كالورد والعطرشاء الفوّاحة التي ارتفع مستوى غراستها في السنوات الأخيرة.
وتطوّر فنّ التـّقطير ليشمل حشائش بريـّة غابية أخرى وهو تطور ساهم فيه بالخصوص برامج مساعدة المرأة الرّيفيـّة بمنطقة واد العبيد.