العصر الصنهاجي
في سنة 534 هـ/1148 م، استولى جرجي الانطاكي على المهديّة التي تخلـّى عنها آخر ملوك بني زيري بإفريقية. كما استولى على سوسة وصفاقس وربّما قابس. وأقام النـّرمان الصقليّون في أهمّ المدن الساحليـّة، من طرابلس إلى الوطن القبلي (جزيرة شريك)، شبه نظام حماية متسامح بما فيه الكفاية، تحمّله السكان بصبر مدّة تناهز الإثني عشرة سنة….
….استهل يحي ولايته بتوجيه عسكر كثيف إلى قلعة قليبية، التي أعلن قائدها ابن محفوظ استقلاله. فنزل يحي على تلك القلعة التي هي أحصن قلاع إفريقية وحصرها حصارا شديد، ولم يبرح حتى فتحها (سنة 502 هـ/11 أوت 1108 – 30 جويلية 1109 م). وكان أبو تميم قد رام فتحها فلم يقدر على ذلك”.
وقد أولى يحي بن تميم أسطوله عناية فائقة. فقد زاد في عدد السّفن وكثــّر من عمليـّات الغزو في البحر المتمثلة لا في عمليّات واسعة النطاق، بل في غارات خاطفة، ومناوشة السفن التجارية المسيحيّة بدون انقطاع، بواسطة مجموعة صغيرة من المراكب، لا تترك المجال لردود فعل العدوّ إلاّ في حدود ضيّقة للغاية. ذلك هو، حسبما يبدو، برنامج يحي، الذي طبـّقه خلفاؤه من بعده….
….ولمّا استقرّت أحوال البلاد سار جرجي في أسطول إلى قلعة قليبية، وهي قلعة حصينة (في الوطن القبلي). فلمّا وصل إليها سمعته العرب، فاجتمعوا إليها ونزل إليهم الفرنج فاقتتلوا، فانهزم الفرنج، وقتل منهم خلق كثير فرجعوا خاسرين إلى المهديّة.
ورغم أنّ المصادر العربيّة أكـّدت أن رجار الثاني قد أصبح يسيطر على جميع سواحل إفريقية، من طرابلس إلى الوطن القبلي، فإنـّها لم تذكر احتلال قابس الذي أشارت إليه المصادر المسيحيّة….
…..ونستخلص ممّا تقدّم ذكره أنّ الفوضى كانت سائدة في شمال إفريقيّة، أكثر من أيّ مكان آخر وأنه لم يبذل أي مجهود خلال أكثر من قرن لوضع حدّ لذلك الوضع. كما نلاحظ أن بني هلال لم يستطيعوا الاستيلاء، بأتمّ معنى الكلمة، على أيّة بلدة ذات أهميّة. بل حتى في باجة، كانت سلطة الأمير الرّياحي القوي النفوذ مؤنس بن يحي، ذات صبغة عابرة. وفي الجملة فقد اكتفوا بحط رحالهم في السهول، حيث كانوا يجدون ما يسدّون به رمقهم هم ومواشيهم، واقتنعوا بفرض الضرائب على سكـّان المدن والقرى. ولا نعلم أي شيء عن الوطن القبلي والمنطقة الواقعة بين زغوان والقيروان….
والجدير بالتذكير أن المتآمرين على يحيى كانوا يرتدون لباس أهل الأندلس، وانتقاما منهم قبل في المهدية عدد من الأشخاص المتزين بذلك الزي.
ومما لا شك فيه أن أهل البادية كانوا يجهلون الملابس المصنوعة ويقتصرون على ارتداء قطعة قماش غليظة تسمى “تليس”، وكانوا يمشون في أغلب الأحيان حفاة ونعالهم في أيديهم ويبدو أن ملابس بني هلال التي لا نعرف عنها شيئا كانت تشبه ملابس أهل البادية في العصر الحديث. وحسب البكري، كان المتعبّدون في جبل أدار في أقصى الوطن القبلي، يرتدون “البردي…
… سوف لا نفيض في الحديث عن الماشية التي نستطيع مع ذلك تصوّر وضعيّتها في العصر الصنهاجي. فقد أشارت بعض الفتاوى إلى وجود الخرفان ذات الآلية النحيفة (ربّما في منطقة قسنطينة)، وهي لا تقلّ قيمة عن الخرفان ذات الآلية الغليظة التي كانت تمثل السلالة الإفريقية على الوجه الأكمل. وكانت تربية الخيول التي تتعاطاها صنهاجة وزناته على حدّ السّواء، مزدهرة لا محالة ورائجة بالخصوص في سهول نوبة بالوطن القبلي. وكان سهل قمّودة ملائما هو أيضا لتربية الخيول…
وكان بعض النسّاك يعيشون في جبل زغوان وفي الوطن القبي. ولم تخلُ البلاد من العجائز المتعبّدات، مثل تلك المرأة الصالحة التي كانت تتردّد على القابسي في القيروان وقد أسماها “بعجوز الحارة”
وقد كان الاختلاف أو بالأحرى التمييز بين الفقهاء والمتعبّدين، وبين العلماء والنـسّاك، نظريّا أكثر منه حقيقيّا. وعلى أي حال يبدو أن أصحاب كتب الطبقات قد حرصوا على التقليل من أهميّته مؤكـّدين عمدا على ورع فقيه مثل ابن أبي زيد، وعلى علم رجل صالح، مثل محرز بن خلف. “فلا علم بلا عمل ولا زهد بلا فقه”
أما أبو باديس أبخت بن باديس اليكشني، فهو شيخ إباضي زناتي، كان يتعاطى تربية الخيول في فحص بونة، ولا شكّ أن الأمر يتعلـّق بنوبة (سيدي داود في الوقت الحاضر) الواقعة في الوطن القبلي. وقد أهدى حفيده إلى المعزّ بن باديس مهرين كان قد ربّهما وروّضهما. فقبل الأمير الهديّة بابتهاد وجازاه. ولكنّ وزراءه استنكروا موقفه إزاء هذا الخارجي، قائلين له: اقتله لكي لا يثور عليك، فهو إباضي يجوز قتله، لا سيما وقد شاهدت أهمية هديته التي لا تمثـّل مدى ما تركه من قوّة وراءه.
من كتاب الدولة الصّنهاجية ، تاريخ إفريقية في عهد بني زيري
تأليف الهادي روجي إدريس ترجمة حمادي السّاحلي ، دار الغربي الإسلامي 1992 ،بيروت