جزيرة شريك
كانت جزيرة شريك (أو جزيرة أبي شريك أو جزيرة باشو أو الجزيرة) منطقة خصبة ذات أسواق نافقة “وعمارات متصلة”. وقد أشارت المصادر إلى وجود بعض القرى الواقعة في المنطقة الداخلية، نخص بالذكر منها قرية القرشين وقرية الصقالبة (مازالت قائمة الذات إلى اليوم) وقرية اللوزة. إلا أن أغلب القرى تقع على شاطئ البحر، إذ نجد في الجهة الغربية في المنطقة الفاصلة بين خليج تونس ورأس أدار : قصر جهم وقربص (أو قصر قربس كوربيس في العصور القديمة)، وقصر النخلة وقصر بنزرت وقصر نوبة (سيدي داود في الوقت الحاضر وميسوا في العصور القديمة). وكانت نوبة في العقد الأغلبي تمثل أهم مرسى إبحار إلى صقلية، قبل إنشاء دار الصناعة بسوسة، وقاعدة الوطن القبلي.
وعلى الواجهة الشرقية تقع من الشمال إلى الجنوب. مدينة قليبية (أو إقيبية، كلوبيا في العصور القديمة) وقصر أبي مرزوق ولبنة (أو قصر لبنة) وقصر سعد وقربة (أو قصر قربة ـ كوروبيس في العصر القديم)، وقصر توسيحان، وهو قرية مبنية على رأس يحمل نفس الاسم، بالقرب من أطلال رومانية وأخيرا نابل (قصر نابل، نيابوليس في العصور القديمة)، حيث لم يشر الإدريسي على خصوبة جزيرة شريك المغروسة بالزياتين والمغطاة بالزراعات والمروية على أحسن ما يرام بفضل الآبار. ولكنه أكد أنه “لم يبق من مدينة باشو إلا مكانها، وفيه قصر معمور”.
ومع ذلك فقد كانت باشو مدينة كبيرة آهلة بالسكان، وهي أهم من سوسة وكان لهذه القاعدة الإقليمية غير المسوّرة مسجد جامع وعدة حمامات وثلاث ساحات عمومية وأسواق نافقة وكانت تقام فيها في كل شهر أسواق عمومية يتوافد عليها الناس من كل حدب وصوب. ويبدو أن هذه المدينة قد كانت ضحية جذّابة وسهلة المنال، من ضحايا بني هلال. فقد تمكن قسم من سكانها كيفما كان الحال من الاعتصام بشبه حصن، ربما بقي قائم الذات بعد خراب المدينة، ولاذ الآخرون بالفرار. أفلا يحق لنا أن نفترض أن القصور التي لم تشر إليها المصادر قبل أوائل القرن الثاني عشر ميلادي ولكن ذلك لا ينفي وجودها قبل ذلك التاريخ في شكل رباطات مثلاـ قد كانت ملجأ للسكان الخائفين ؟.
ولكن لا ينبغي أن يفوتنا أن الإدريسي لم يهتم إلاّ بالموانئ وأنه ألّف كتابه لملك صقلية النرماني. ومهما يكن من أمر فليس هناك أي داع لعدم الاعتقاد بأن مدينة باشو قد قرّبت إثر زحفة بني هلال. ومما لا شك فيه أن المدينة قد عمرت من جديد فيما بعد، إذ أكّد التجاني أن علي بن غانية قد خربها ونهبها في سنة 582 / 1186 – 1187 م ، “فاضطرّ أهلها إلى الفرار، ففرّوا بأجمعهم إلى تونس ونزلوا بين سوريها، فدخل عليهم فصل الشتاء هنالك فأهلكهم البرد والماء وأحصي من مات منهم فكانوا اثني عشر ألفا”. ولكن النصين غير متناقضين. ذلك أن كثيرا من المدن التي خربت في بداية الغزوة الهلالية قد استعادت شيئا من ازدهارها فيما بعد، ألم يكن ذلك من مصلحة أهل البلاد والغزاة على حدّ السواء ؟ ألم تكن باشو تمثل بالنسبة إلى أولئك وهؤلاء ضرورة حيواية؟ فبعد النهب لا بد من السعي، كيفما كان الحال، إلى طلب الرزق، بزراعة الأرض وتربية الماشية وتعاطي التجارة.
(وجاء في رياض النفوس) أن بعض المسافرين قد غادروا ذات يوم قصر الحديد (أو الجديد) عند طلوع الشمس، قاصدين سوسة، فمرّوا من ما جل أبي الزمرد وانتهوا إلى قصر الفرياني عند المغرب. ومن الغد صباحا استأنفوا رحلتهم محاذين البحر إلى أن وصلوا إلى قصر الحمامات عند الظهر.
وفي الناحية الجنوبية من مدينة باشو، نجد على التوالي : قصر الزيت (الواقع في مكان بلدة سياغو العتيقة، على بعد 4 كم شمال غربي الحمامات وهو المكان المطابق تقريبا لبلدة بئر برقبة الحالية)، ثم فندق ريحان وقرية الدواميس، وهي قرية كبيرة محاطة بالزياتين والأشجار تقع بين باشو والقيروان، وتبعد عنهما مسافة مرحلة.
وقد كانت المرحلة الفاصلة بين الدواميس والقيروان عامرة بالقصؤو والمنازل والقرى.
الشريط الساحلي من نابل إلى سوسة :
ثم نجد في الريق المحاذي للبحر، من نابل إلى سوسة: قصر الخياط وقصر النخيل والحمامات التي يوجد بها قصر وقصر المنار وقصر المرصد وقصر المرابطين وهرقلة (أو أهرقلية أو هرقلية. هورياكايلا في العصور القديمة). ولعل البلدة المعروفة باسم منزل أبي سعيد كانت موجودة في المكان الذي يطلق عليها اليوم اسم سيدي سعيد والواقع بين هرقلة وسوسة. وخلف هرقلة في اتجاه سوسة يوجد قصر عمر الأغلبي.
مدينة باشو
كان المسافر الذي يغادر مدينة تونس متجها إلى القيروان يسلك الجادّة التي تربط بين شمالي وجنوبي إفريقية القديمة. وقد استعمل هذه الجادّة منذ أكثر من ألفي سنة كل من القرطاجنيين والرومان والواندال والبيزنظيين والعرب. وكانت هذه الجادّة تقاس بمسيرة “اليوم” وهي التي تدعى “مرحلة” حسب الذي كان معروفا في القديم. وتتفرع عن هذه الجادّة الرئيسية مختلف الطرق والمسالك الفرعية إلى بقية المدن والقرى الأخرى.
وبعد مغادرة تونس يصل المسافر إلى رادس (Maxula Radès قديما). وهي قرية هامة، تقع فوق ربوة عالية، حيث تقيم مجموعة قارة من الحراس. ومن هذه القرية كانت مراقبة الغادين والرائحين عبر خليج تونس وبحيرتها، كما كانت تقع مراقبة طرق المواصلات المتجهة إلى داخل البلاد.
ويتابع المسافر طريقه، وعلى يساره سهول مرناق الخصبة (فحص مرناق قديما) حيث تكثر الضيعات الصغيرة والمزارع الفلاحية. ثم يعبر “وادي مليان” الذي لا يبعد كثيرا عن رادس فوق جسر قوي بناه الأغالبة. ويواصل المسافر سيره حتى يصل “حامّة شريك” (حمام الأنف حاليا). وهي الحامّة المعروفة بمياهها الحارة، والتي يقول عنها البكري حامة جليلة مجرّبة النفع.
وبعد حامة شريك تبدأ أراضي شبه جزيرة شريك (الرأس الطيب أو الوطن القبلي حاليا). وعند توغل المسافر في اتجاه الشمال الشرقي من هذه الجهة يمرّ على عدد كبير من القرى والضيعات تربطها طريق فرعية مع الجادّة الرئيسية في مركز “صلتان”, وكانت صلتان في ذلك العهد مزدهرة تلتئم بها سوق أسبروعية، ويعيش حواليها بدو من أصل بربري “بنو صلتان”.
وفي آخر اليوم يصل المسافر إلى “باشـّو” أو بعبارة أدق “منزل باشو” عاصمة هذا الإقليم.
ولنتوقف قليلا عند هذه المدينة لدراسة خصائصها معتمدين في ذلك على المعلومات التاريخية والجغرافية التي أفادنا بها المؤرخون والجغرافيون العرب في القرون الوسطى.
ولنبدأ بما قاله البكري اعتمادا على المؤرخين الذين سبقوه.
يقول البكري : “… وأم إقليم جزيرة شريك منزل باشو. وهي مدينة كبيرة آهلة، بها جامع، وحمامات، وثلاث رحاب، وأسواق عامرة. وبها قصر أحمد بن عيسى القائم على بني الأغلب.
واعتمادا على ابن حوقل نستنتج بأن منزل باشـّو كان تلتئم فيه أسواق كلّ شهر تحضر لأيام معلومة.
أما المقدسي في “أحسن التقاسيم” فيذكر بأنها “بلاسور، وبناؤهم مدر، وشربهم من آبار منها سقي مزارعهم”
هذا هو بصفة عامة كل ما يعلمنا به الجغرافيون العرب عن “باشو” في القرون الوسطى. إلاّ أنـّه من حسن الحظ أن الرحالة أبا محمد عبد الله التجاني الذي تجول في المدن التونسية من الشمال إلى الجنوب سنة 707 هـ (1308 م) أمكن له أن ينمّي معلوماتنا عن “باشو” خاصة فيما يتعلق بآثارها، فبعد أن تعرض إلى وصف مجمع لهذه المدينة نقلا عن البكري، فإنه يروي لنا ـ نقلا عن ابن شدّاد ـ الأسباب التي من أجلها خرِّبت هذه المدينة. وذلك أنه “… لما نزل علي بن إسحاق على منزل باشو من الجزيرة ـ وهو على بعض يوم من تونس ـ سأله أهله الأمان فأمنهم. ودخل عسكره إلى المنزل المذكور فانتهبوا جميع ما فيه، وسلبوا أهله حتى ثيابهم التي تواريهم. وامتدت أيدي العبيد وجفاة الأعراب إلى البنات فاضطر أهله إلى الفرار، وفرّوا بأجمعهم إلى تونس، ونزلوا بين سوريها، فدخل عليهم فصل الشتاء هنالك فأهلكهم البرد والماء.
وأحصي من مات منهــم بتونس، فكانوا اثني عشر ألفا. “وقد وقعت هذه الحادثــة سنة 582 هـ (1186 م).
وقد وصف التجاني حالة باشو ـ عند زيارته لها ـ بقوله : “وهذا المنزل الآن خراب لم يبق منه إلا مكانه. ويقال : إنّ عُمـَدَ الجامع الذي كان به، وشيء من الرخام المنجور المحكم الصنعة نقلت في هذا الزمان القريب إلى تونس، فأقيم عليها جامع قصبتها..” والشيء الذي يمكن استنتاجه من الخبر الذي أورده التجاني عن باشو هو أنّ هذه المدينة التي خرّبت في القرن السادس الهجري صارت بقايا أبنيتها مقطعا للحجارة. وأن الحفصيين استفادوا من ذلك عندما استعملو أعمدتها في أل أثر معماري تركه لنا بنو حفص.
وملاحظة المقدسي من عدم وجود أسوار تحمي هذه المدينة من الغزوات والهجمات تجعلنا نتصور سهولة المآل المؤلم الذي صارت إليه تلك المدينة.
ولعتّه يجدر بنا الآن أن نحدد موقع منزل باشو ملاحظين ـ منذ البداية ـ أنّ سكان الرأس الطيب (الوطن القبلي) لا يعلمون شيئا عن هذه المدينة المندثرة، ولم يعودوا يذكرون اسمها.
ولقد أمكن لي ـ بعد بحث طويل ـ تحديد موقع هذه المدينة اعتمادا على بعض الأثار الهامة التي توجد اليوم في المكان المسمّى بـ “جديدة” والذي يقع على بعد سبع كيلومترات من الشمال الشرقي لمدينة “قرنبالية” بين خرائب قرية “الأخوين” ومحطة “بوعرقوب”.
إنّ قرية “جديدة” تنطبق عليها انطباقا تامّا الرسوم القديمة التي وصلتنا، فآثار الجامع المذكور ما تزال موجودة ركاما بعد أن أزيلت أعمدته. ولم يبق من هذا الجامع إلا صومعته. وهي صومعة اسطوانية الشكل تشبه صومعتي قصر سوسة ورباط المنستير. وبذلك تكون هي الصومعة الثالثة من هذا الشكل في البلاد التونسية.
يبلغ طول برج هذه الصومعة عشرة أمتار تقريبا. وهو مبني بالآجرّ الأحمر. أما قمّته فمؤطّرة بإفريز رقيق أبيض. ويوجد داخل الصومعة درج ضيق لولي الشكل يمكّن المؤذِّن من الصعود إلى أعلى المئذنة للقيام بالآذان.
وترتكز هذه المئذنة على أساس من الحجارة المنقوشة، مثمن الشكل، يبلغ طوله مترين وعرضه خمسة أمتار.
والسؤال المتبادر هو : هل كان هذا الجامع “هيكلا” في العهد القديم، ثم أصبح بعد قدوم العرب مسجدا جامعا كما يفترض ذلك “بلّسيه” وقيران” و”صلاح الدين” الذين زاروا كلّهم آثار قرية “جديدة”؟ إنّ هذا الافتراض يبدو لي غير واضح وبعيد الاحتمال، لأن الأغالبة كثيرا ما بنوا بناءات تشبه في أسلوبها البناء الروماني.
ومهما يكن فإن وجود هذه المئذنة الاسطوانية الشكل دليل أثري هام، لأنـّه يمكننا من تحديد تاريخ تطور “منزل باشو” على سبيل التقريب. والغالب على الظنّ أنّ هذه المدينة نشأت وازدهرت في عهد الدولة الأغلبية. وهذه النظرية تتفق مع المعلومات التي قدّمها لنا اليعقوبي المتوفي سنة 284 إذ نلاحظ أن اليعقوبي يذكر مدينة نوبة في جزيرة شريك باعتبارها عاصمة هذا الإقليم، لأنّ عامل الجزيرة ينزل بها. ولا يذكر اسم مدينة “باشو” بينما نجد الذين أتوا بعده (ابن حوقل، المقدسي، البكري) يذكرون أن مدينة باشو هي عاصمة هذا الإقليم.
إبــّيانـــة
يذكر المؤرخون الذين أوردوا أخبارا عن البعثات العربية لفتح إفريقية أن “فحص مرناق” الذي يقع جنوب شرقي مدينة تونس عرف عهدا زاهرا. ويتفق هؤلاء المؤرخون على وجود كبير من القرى في سهول “فحص مرناق”. بل يذهب البعض منهم إلى القول بأن عدد هذه القرى بلغ ثلاثمائة وستين قرية ولكن بدون أن يذكر أي واحد منهم أسماء تلك القرى.
ونحن لا نشك أن سهول مرناق كانت ـ منذ العهد القديم ـ آهلة بالسكان، ومستغلة استغلالا فلاحيا طيبا نظرا الخصوبة أرضها، ولقلة عمق طبقات مياهها الجوفية، ونظرا لقربها من قرطاجنة (عاصمة إفريقية قبل الفتح العربي).
وإذا حدّثنا الجغرافيون والمؤرخون العرب عن تلك القرى فإنما يعنون بذلك مزارع بها مجموعات سكنية متفرقة حسب المفهوم الروماني “Les Villas et Cella de Romains ” وكلمة “قرية” التي تستعمل في العربية في معنى المزرعة يمكن أن تؤكّد تلك النظرية التي قلتها قبل حين.
والمؤرخون ـ وإن لم يذكروا لنا أسماء بعض تلك القرى ـ إلاّ أننا نعرف اسم واحدة منها ـ على الأقل ـ بقيت موجودة إلى حدود النصف الأول من القرن الخامس الهجري (الحادي عشر مسيحي) وهي قرية “إبّيانة”.
وبفضل الخشني في طبقات علماء إفريقية استطعنا أنا نحد موقع هذه القرية أثناء حديثة عن قاضي القيروان (عبد الله بن أحمد بن طالب) ويذكر لنا الأسباب التي جعلت إبراهيم بن أحمد الإلبي يعزل ابن طالب عن خطة القضاء فيما يلي : “… وكان السبب في ذلك أن إبراهيم بن أحمد طلب من أهل إبّيانة( في الأصل لسانه) قرية تجاور تونس أن يتيعوها منه فبوا عليه فقهرهم عليها وأدخل فيها السودان، فتطاول بعض السودان على بعض بنات أهلها، فافتضها، فأتت أمّها بثوبها بما فيه من أثر دمها، فرمته في حجر القاضي ابن طالب وأخبرته الخبر، فتفجع. ثم قال لمن حضره : ما أظن هذا الرجل يومن بالله ولا بيوم الحساب ، فبلغ ذلك إبراهيم، فكان من أمره فيه ما كان..”
وبإمكاننا أن نربط هذه الحادثة بالجملة الانتقامية التي قام بها إبراهيم الثاني سنة 280 هـ (813 م) ضد جهة تونس.
ومهما يكن من أمر فنحن واثقون أن هذه القرية انجبت أحد القضاة المالكيين المشهورين هو أبو العباس عبد الله بن أحمد التميمي الإبّياني المولود سنة 253 والمتوفي سنة 352 (867 ـ 964م).
والقاضي عياض عندما ترجم للابياني في كتابه “المدارك” ذكر طريقين في ضبط اسم إلاّبياني “فقال : بكسر الهمزة وتشديد الباء. ويقال : صوابه تخفيفها”.
وفي مدخل فحص مرناق أي بعد اجتياز قنطرة “وادي مليان” توجد على يمين المتوجه إلى حمّام الأنف قبّة تعرف عند سكان الجهة بضريح “سيدي أحمد الابياني”. وفي هذا المكان بالذات دفن العالم المذكور أبو العباس عبد الله بن أحمد الابّياني. أما اسم “أحمد” الذي أطلق عليه خطأ من سكّان المنطقة فلعلهم استوحوه من كنية “أبو العباس” التي تصاحب غالبا اسم “أحمد”.
والمنطقة التي توجد بها القبة المذكورة تسمى اليوم “الخريبة” تصغير “خربة” مما يؤكد أنه كان يوجد تجمّع سكني في هذا المكان من قبل. وإلى جانب القبّة توجد بعض البناءات السكنية يعود تاريخ بنائها إلى قرنين تقريبا. وهي تعرف اليوم باسم “برج الخلاّدي” وهو اسم أحد مالكي تلك الأرض في العصر الحديث. وتوجد قرب القبة مقبرة مستعملة إلى اليوم. وفي نهايتها توجد أنقاض حوض للماء. وعلى بعد ثلاثين مترا جنوب القبة توجد بئر عظيمة، يبدو من بنائها الضخم أنه بنيت في العهد الأغلبي خاصة أن أنصاف عقود القباب مازالت موجودة. وعلى بعد خمسين مترا ـ شرقا ـ نجد بعض آثار ذات حيطان ضخمة.
والذي يبدو أن هذا المكان كان يمثـّل وسط القرية القديمة. ويؤكد فلاحو المنطقة أنهم ـ أثناء الحرث ـ كثيرا ما يجدون آثار بعض الأس، وعقود القباب، وقنوات المياه.
والسؤال الوارد هو : ما هو الاسم القديم لابّيانة ؟
إننا نميل إلى أنها كانت تسمى في القديم باسم “فيبيانا : vibiana” وهي أسقفية إفريقية قديمة لم يقع تحديد موقعها إلى الآن. وإن التقارب بين الاسمين (إبّيانة وvibiana) واضح خاصة إذا علمنا أن الحرفين اللاتينين vوu كثيرا ما يتشابهان في النطق اللاتيني، فمن الممكن ـ إذن ـ أن يكون اسمها في القديم فيبيانا او ويبيانه (Vibiana, ou Uibiana). وهذا مجرد افتراض نترك تحقيقه للمنقبين عن الآثار والمتخصصين في اللغة اللاتينية.
ص 397
ولا أغفل كذلك ـ في هذا المضمار ـ عن ذكر ظاهرة تتمثل في أن بعض العائلات التونسية لها من الأسماء ما يذكرنا بأصلهم الصقلي.
ففي قربة ـ المدينة الواقعة بالوطن القبلي ـ نجد عائلة تدعى “الزقلي” وهو تحريف للفظة صقلي فمالت “الصاد” إلى “الزاي”. وهي ظاهرة صوتية معروفة، بينما نجد في الساحل التونسي عائلة أخرى عريقة تدعى “السكلي” وأبدلت هنا القاف كافا. كذلك فإن عددا عديدا من العائلات المنتسبة إلى الأوساط البور جوازية “في تونس العاصمة” تنحدر من أصل إيطالي أو صقلي جاءت إلى تونس في القرون الثلاثة الأخيرة.
ص 399
عندما كنت منذ عشرين سنة “عاملا” بنابل ذهبت إلى إقليبية ـ وهي مدينة معروفة بالوطن القبلي ـ ونزلت مباشرة عند “الخليفة” ـ وهو محتر ـ وبينما كنـّا نتجاذب أطراف الحديث إذ دخلت علينا امرأة إيطالية متقدمة في السن، وأخذت في الحديث مع الخليفة” بلغة عربية تونسية خالصة . وكنت أعرف أن مجموعة من السكان الإيطاليين في (بنطلارية بالضبط) يعشون منذ أكثر من قرن قرب إقليبية وهم من الفلاحين الصغار المتعاطين لرزاعة الكروم والمهيئين للزبيب مثل أهل “بنطلارية” وقبل أن تخرج زائرتنا الإيطالية سألها “الخليفة” بالعربية : كرمينا / Carmina” متى ستزوجين “ببينو / Pepino” ابنك ؟ فأجابته في تعجب : كيف تسألني هذا السؤال، يا سيدي. وأنت تعلم أننا في شهر عاشوراء. ولا يجوز لنا أن نعقد زواجا أثناءها وكانت هذه المرأة كاثوليكية مسيحية تذهب كل يوم إلى الكنيسة في إقليبية لحضور القـّداس.