الوعي الجنيني بالظاهرة الاستعمارية
وجهت عروض البدو سهام نقمتها إلى قوّات الاحتلال الفرنسي. كما أنّها هاجمت أصحاب النفوذ السياسي وأعيان الجهة واليهود والأوروبيين من أصحاب الأملاك والثروات. فقد هاجم البدو هناشر اليوناني ماتيو بضواحي سليمان وقتلوه وهبوا من أمتعته. وفي ضواحي الحمامات أفسدوا أشجارا مثمرة بسانية المالطي بيترو قاقية نائب قنصل انقلترا. كما نال أعيان الجهة وأثرياؤها نصيبهم من غضب “لعربان” إذ أحرقت أكوام من التبن على ملك قاسم فنينة خليفة الحمامات.
لقد اعتبرنا مداهمة قبائل البدو للأعيان واليهود والأوروبيين ضربا من ضروب المقاومة للاحتلال الفرنسي لسببين هامّين :
أوّلا : إن هذه الاعتداءات كانت محدودة جدّا في سنة 1864 ولم تتسم بالحدّة والشموليّة اللتين تميّزت بهما بمناسبة الغزو العسكري الفرنسي سنة 1881. فقد اندلعت أحداث الشغب التي قام بها أولاد سعيد خلال انتفاضة 1864 أثناء تمرّد داخلي ليس له صلة مباشرة بوجود قوات أجنبية.
ثانيا : لا يمكن الفصل بين نهب أولاد سعيد للأعيان المحلّيين واليهود والأوروبيّين وبين مقاومتهم لقوات الاحتلال الفرنسي. فالمقاومة المسلحة التي واجه بها البدو الجيش الفرنسي توجت في الحقيقة نقمتهم على من يعتبرونهم جلاّدين ومستغلين لهم.
حلـّت القوّاة الفرنسية بنابل وكانت مكوّنة من 600 جندي وعدد من المدافع، فتكتل البدو واستعدّوا للمواجهة رغم عدم تكافئ القوى بين الجانبين. عزز الفرنسيون حضورهم بالوحدات البحريّة “بابورات” على سواحل الحمامات، ونزل بعض جنودها واحتلّوا مواقعهم في برج المدينة نتيجة لذلك عزز أولاد سعيد جانبهم بمجموع من جلاص والمهاذبة والمثاليث والسواسي، وقطعوا على المحلّتين الفرنسية والتونسية المتحالفتين جميع الطرق للتزود بالماء والعلف وكبدوهما خسائر جسيمة. وفي شوال 1298 هك وجه مشايخ أولاد سعيد مكتبا إلى مشايخ المعاوين يستحثونهم على نصرة العروض الثائرة بالخيل والمال ويعلمونهم بأنهم قادمون إليهم.
وقد خاطب أولاد سعيد المعاوين بقولهم : “أنتم تعلمون وتسمعون ما طرأ هاته المدّة وهذا الوقت فوجب علينا أداء الفرص… وفي الحقيقة أنتم أولى بهذا الأمر في المبادرة إليه”.
كيف كان وعي أولاد سعيد وعموم البدو بالاستعمار جنينيّا وضبابيّا؟
يمكن أن نستدلّ على ذلك بتوفر عنصرين ميّزا حركة هذه العروض أثناء مواجهتهم لفيالق الاحتلال وممثلي السلطة وهما:
أوّلا : امتزاج مقاومة أولاد سعيد للاحتلال الفرنسي بأعمال نهب وسلب استهدفت عروشا أخرى من البدو أو بعض عابري السبيل. وكادت تكون هذه الأعمال من الخاصيّات الرئيسيّة لتحرّكات قبائل البدو وحياتها بقطع النظر عن الظروف التي تتمّ فيها تلك الممارسات.
ثانيا : استثارة أولاد سعيد للنفوذ الديني الذي كان يحظى به المعاوين لدفعهم إلى المبادرة بمقاومة المحتلّ الأجنبي. نلاحظ في هذه غياب إدراك حقيقي للموقع الاجتماعي للمعاوين. إذ كانوا شريحة متميّزة اجتماعيا تسعى إلى الحفاظ على امتيازاتها.
الطيب النفاتي
من كتاب االوطن القبلي الماضي والحاضر بحوث ودراسات
نشر وزارة الثقافة اللجنة الثقافية الجهوية بنابل 1993, ص 141 – 150.
